الإنسان الأعلى لا يطلق وعوداً فارغة
- عزيز بن ثاني
- 27 فبراير
- 3 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: قبل 3 أيام
في زمن فقدت فيه الكلمات ثقلها، وتحولت إلى مجرد أصوات جوفاء تتلاشى في الهواء، باتت الوعود أقنعة مؤقتة، يزيّن بها الناس لحظاتهم قبل أن يخلعوها ويلقوا بها عند أول منعطف.. "سأتصل بك"، "سنلتقي قريباً"، "سأفعل كذا وكذا"—عبارات يطلقها الناس بخفّة مريبة، بلا التزام، بلا وزن وبلا روح.

تخيل معي عالماً تكون فيه الكلمة ميثاقاً، لا استهلاكاً رخيصاً أو وسيلة للتملق، بل وعداً يحمل ثقله ويعكس فعله. ليس بحثاً عن الكمال، فأنا لست مثالياً وأدرك ذلك جيداً، فقد خذلت، وكذبت، وأطلقت وعوداً لم أفِ بها. ربما لأنني لم أكن أعي وقعها، أو لأنني لم أنضج بعد لأفهم أن كل وعد يُكسر، قد يأخذ معه جزءاً من الثقة لدى الشخص المخذول في هذا العالم.
ومع ذلك، هذا الخيال ليس وهماً، بل يمكن أن يكون واقعاً، على الأقل مع دائرة صغيرة تؤمن بقيمة الكلمة وتفي بها.
فقد تغيّرت، وأدركت أن المصداقية هي السمة التي تفرّق الإنسان الأعلى عن القطيع. الإنسان الأعلى في فلسفة نيتشه، الذي يتجاوز التقليد الاجتماعي ويجعل من كلماته تعبيراً حقيقياً عن إرادته بدلاً من أن تكون مجرد صدى فارغ.
وفي سياق هذا التغيير، يبدأ الإنسان الأعلى في اكتساب الوعي الكامل بأفعاله وكلماته، مستفيداً من تجاربه السابقة وتعلمه من الخذلان. يتحرر من الوعود الفارغة ويؤمن بروح الكلمة، لا تملقاً أو إرضاءً للآخرين، بل عهد يقطعه على نفسه، وميزان يرفع به استحقاقه.
ورغم أنه قد يواجه خذلان الآخرين المتكرر، إلا أنه لا يستسلم لهذا الواقع، بل يتعلم كيف يتحرر من تأثير الجماعة التي تقتات على الأوهام، ويفرض وجوده وفق قيمه الخاصة، لا وفق ما يمليه عليه التيار.
إنه لا يسعى للكمال، بل يسعى للحرية الفكرية واتخاذ قراراته بناءً على إرادته الحرة. يواجه التحديات بشجاعة، مدركاً أنه في هذا المسعى لا يوجد مكان للوعود التي لا تُنفذ أو للأقنعة التي تُخفي الحقيقة.
ففي عالم يختبئ خلف الأقنعة، ويستهلك الكلمات حد الابتذال، اخترت أن أكون مختلفاً، أن أزن كلماتي، وأجعلها امتداداً لذاتي، لا مجرد صدى يخفت ويتلاشى.
ومع ذلك، بينما أحاول أن أكون أكثر وعياً، أكثر التزاماً، أكثر صدقاً مع ذاتي، أجدني وبصورة متكررة أمام أولئك الذين يجيدون إطلاق الوعود الفارغة. هل هذه مجرد مصادفة تتكرر؟ أم أنني، دون أن أدري، أستدعي هذا النوع من التجارب إلى حياتي مراراً؟ إذا كان واقعي انعكاساً لما بداخلي، فما الذي في داخلي يجذب إليّ هؤلاء الذين يتقنون بيع الكلام دون نية للوفاء به؟
ربما المشكلة لا تكمن فقط في الآخرين، بل في جزء داخلي لم يتحرر تماماً من تأثير الجماعة. جزء لا يزال يجد أعذاراً للخذلان، يبرر غياب الآخرين، وينتظر منهم ما لا ينوون تقديمه.
وربما لأنني لم أتخلَّ عن الأمل، رغم إدراكي لسطحيته في عالم تحكمه المصالح وتُوزن فيه العلاقات بميزان المنفعة. ومع ذلك، ظل جزء مني يقاوم فكرة أن كل شيء محكوم بالربح والخسارة، وأن الوعود أحياناً هي مجرد وسيلة لشراء الوقت. تمسّكت بهذا الأمل، حتى وهو يتآكل تحت برودة الواقع، كجمرة تتوهج بصمت تحت رياح الخذلان، تأبى أن تنطفئ تماماً.
لكنني أعرف يقيناً شيئاً واحداً، لست ذلك الشخص الذي يتعلق بمن لا يلتزم بكلمته أو يساوم على الصدق. لقد قطعت شوطاً طويلاً في تصفية دوائري والتخلي عن التوقعات الفارغة.
ومع ذلك، لا تزال ذات التجارب تتكرر، وكأن القدر يسخر مني، أو كأن هناك في داخلي شيئاً لم أكتشفه بعد، يعيدني باستمرار إلى النقطة ذاتها. لكن إن كان هناك شيء لم أكتشفه بعد، فلن أبحث عنه في ذات الدوائر المفرغة. لن أطالب العالم بأن يتغير من أجلي، ولكن لن أسمح بأن أكون ساحة للوعود الفارغة. فأنا لا ألهث خلف العلاقات، ولا أفرض نفسي حيث لا تنتمي روحي، إن كانت الصداقات الحقيقية مقدّرة، فستجد طريقها دون تصنّع أو مجاملات زائفة.
ومهما تكاثرت الوجوه الباهتة، هناك قلة في دائرتي أثق بكلمتهم، نمضي معاً على أرض الصدق، لا في وحل الزيف-ماضين كما ينبغي لـلإنسان الأعلى، بلا خوف، بلا أقنعة، بلا وعود فارغة.
فعلا السرد جميل جداً ويلامس الواقع
أنا بمرحلة التسليم التام
من بعد درس
شكرا نبلازيز .
سرد جميل وسلس، لا زلت أمرر اصبعي ع شاشة الهاتف علّي أجد المزيد لاكتشف اني وصلت للنهاية دون أن أشعر...😂
لكن...
لا بد أن نختلق اعذارا للآخرين، فقد تربى البعض على اللا مبالاة وعدم الوعي المدرك للفوضى التي يعيشون فيها وحجم الجرح الذي يتركونه في الآخرين
أعجبني صدق المقال والتجرد من المثالية عن تجارب الخذلان في الماضي وصعوبة الحفاظ على الوعود في الحاضر و التساؤلات عن أسباب جذبنا لمطلقي الوعود الفارغة. كالعادة مبهر في سردك وانتقاء عباراتك، فخورة فيك👏👏🫶