المثلث المرعب: العين والحسد والسحر في ضوء الوعي
- عزيز بن ثاني
- قبل 4 أيام
- 5 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: قبل 3 أيام

عندما كنت طالباً جامعياً في ماليزيا، لفتت ساعتي انتباه زميل صيني كان يجلس بجواري، فحدّق فيها لثواني ثم هتف بدهشة: "وااو، إنها رائعة!" في تلك اللحظة، شعرت برغبة ملحّة أن أطلب منه قول "ما شاء الله" خوفاً من العين. لكنه لم يكن يعرف ثقافتي، ولم أجد طريقة لأشرح له الأمر، فتركت الموقف يمر.
لكن تلك اللحظة أيقظت في داخلي تأمّلاً خفياً امتدّ صداه لسنوات، لماذا نشعر أن نظرة إعجاب قد تُهدِّد النعمة؟ ولماذا نقول "ما شاء الله" بعد كل مديح، كأننا نحيط الجمال بسياج خفي نحميه من الزوال؟ ولماذا نقولها كدليل براءة، لنُثبت أن إعجابنا لا يحمل في طيّاته ضرراً؟ هذه التساؤلات لم تتلاشى مع الزمن، بل نمت وتشعّبت، قادتني إلى زوايا عميقة في وعينا الجمعي حيث يقبع المثلث المرعب: العين والحسد والسحر.
كم مرة أُعجبت بشيء لدى أحدهم، فترى التوجس في عينيه؟ كأن إعجابك صار تهديداً. لا لأنك حسود، بل لأن الثقافة التي تربينا عليها علمتنا أن النظرة قد تحمل ضرراً والإطراء قد يُفسر كتهديد غير مرئي. أصبحنا نُخفي أفراحنا ونكتم أخبارنا خوفاً من العين والحسد. وهكذا، يبدو أننا أمام واقع ثقافي يتجاوز حدود العادات والتقاليد، ليصبح جزء من معتقداتنا الراسخة عن العالم من حولنا. وما يبدأ كحذر عابر، لا يلبث أن يتضخم ويتحوّل إلى يقين متعمق في الوعي الجمعي، يتغذّى على القصص والتجارب المتناقلة، ويجد صداه في مشاهد إعلامية تُرسّخ المعتقد دون مساءلة.
لذلك، لم أستغرب كثيراً عندما شاهدت مقابلة لرجل قُدِّم على أنه "ساحر تائب". تحدث وكأنه يروي علماً دقيقاً، يشرح الطقوس والتعاويذ بتفصيل يُلبِس الوهم لباس المعرفة. حصدت المقابلة على تفاعل واسع عبر منصات التواصل، وكأنها لمست شيئاً ما في وعينا الجمعي. شيئاً يؤمن بأن السحر حقيقة، وأن وراء كل تعثر يد خفية، لا قرار مهمل أو فرصة ضائعة. شعرتُ حينها بإحباط صامت. كيف لا تزال هذه السرديات تحظى بكل هذا الزخم في زمن يُفترض أنه زمن العقل؟ كيف تتسلّل إلينا عبر شاشات حديثة، بأصوات جديدة، ولكن بحكايات قديمة؟
ربما لأننا، بشكل ما، نكسب منها. ليس فقط من يروِّج لها في برامج مُنمّقة، بل حتى من يستهلكها. فهذه الأساطير تمنح الجميع دوراً، البائع والمشتري، المُصاب والمعالِج، وتُبقي السوق مفتوحة على مصراعيها. سوق الخوف، حيث تُباع الطمأنينة على هيئة رقية وبخور وتعاويذ وهمسات في عتمة الليل.
ولأكون صادقاً مع نفسي أكثر، حتى أنا لم أكن يوماً بعيداً عن هذا المشهد، بل كنتُ في لحظة ما جزءاً منه، لا كبائع، بل كمتلقي منهك يتلمّس تفسيراً لما استعصى على الفهم. ففي مرحلة ما من حياتي ليست بالبعيدة، وجدت نفسي أهبط إلى عوالم داخلية موحشة، دخلت نفقاً روحياً قاتماً يُسميه البعض "ليالي الروح المظلمة"، حيث تنهار المعاني وتتصدّع القيم التي طالما ظنناها صلبة. وهناك، في قلب تلك العتمة، تبدو الحياة قاسية، تسحبك بلا رحمة، عارياً من كل يقين، نحو مجاهل الذات. بدت الحياة وكأنها ترفض أن تفسِّر نفسها، الأحداث تتراكم، والإخفاقات تتوالى، وكأن يداً خفية تعبث بخيوط مصيري، تسرق مني، وتمنع عني، وتزرع الريبة مكان الطمأنينة.
وفي خضم ذلك التيه، صادفتُ امرأة ادّعت أنها ترى ما لا أراه. قالت بصوتٍ ترتجف فيه النبوءة: "أنت مصاب بلعنة فرعونية من حياة سابقة. كنت شخصية عظيمة، أنت وزوجتك، لكن الفراعنة سعوا لتدميركما، فظلّت روحك تائهة، تتنقّل من حياة إلى أخرى، بلا نجاح ولا استقرار.. ثم سألتني: "هل لديكم أبناء؟" كان ذلك بعد أن ودّعنا جنيناً لم يُكمل رحلته إلى النور. فأضافت بنبرة قاطعة: "علينا أن نكسر هذه اللعنة فوراً، وإلا ستبقى قوتك مُقيّدة، ومحروماً من النسل".
بدا في ملامحي شيء من التردد، شيء يشبه التصديق المؤقت أو على الأقل التمني بأن يكون ما تقوله حقيقياً. على الرغم من إدراكي لهذه الروايات التي تُحوّل المأساة إلى أسطورة مزخرفة لتبيع وهماً مغلّفاً بالخوف. إلا أنني لم أكن بمنأى عن تأثير كلماتها، إذ تسللت إلى داخلي كهمسة مغرية، لامست رغبة دفينة في الأبوة وطموحاً متعثراً في النجاح، وكأنهما يبحثان عن أي بصيص أمل، حتى لو تجسّد في لعنة فرعونية. كنت أرغب، ولو للحظة، أن أصدّق أنني ضحية لعنة قديمة، فذلك أهون من الاعتراف بأنني أنا، بخياراتي الصغيرة المتراكمة، كنت المهندس الفعلي لواقعي.
لو صدّقتُ تلك المرأة ودفعت لها مقابل فك اللعنة المزعومة، لكنت قد سلكت طريقاً لا عودة منه، يغريني بالبحث الأبدي عن أسباب خارجية لكل ألم أو خسارة. كنت سأدمن الهروب من مسؤوليتي وقراراتي التي صيغ منها واقعي، وبدلاً من مواجهة ذاتي، كنت سألجأ إلى طقوس تخدرني بوهم الأمان.
يبدو أن الرغبة في الهروب من المسؤولية، واللجوء إلى مسبب خارجي يُعلّق الإنسان عليه أوجاعه، ليست مجرد ضعف عابر. بل غريزة متأصلة في النفس البشرية، تظهر بأقنعة مختلفة وفي سياقات متعدّدة. فنحن، في مواجهة المعاناة، لا نميل فقط إلى تجنّب المسؤولية، بل نلجأ أيضاً إلى سرديات تُلبّي حاجتنا للمعنى والطمأنينة، حتى لو كانت مغلّفة بالغيب والأسطورة.
وهذا الميل ليس وليد الصدفة، بل هو انعكاس لطبيعة العقل البشري في مراحله الأولى، حيث يسعى لفهم المعاناة من خلال قوى غامضة وروايات أسطورية، وهي سمة تُجسّد بدايات تطوّر الوعي كما يوضّحها كين ويلبر في نظريته التكاملية. في هذه المرحلة، يسود ما يُعرف بـ "التفكير السحري"، حيث ينسب كل ما لا يُفهم إلى قوى غيبية غير مرئية كالسحر، العين أو الحسد. لا يسعى الإنسان هنا إلى فهم المجهول، بل إلى السيطرة عليه أو احتوائه بالخرافة، في محاولة شبيهة بالإنسان البدائي حين رأى في البرق غضباً إلهياً. بدلاً من دمج التجارب المؤلمة والتعلّم منها، يُقسَّم الواقع إلى ثنائيات مريحة، "أنا الضحية" و"العين التي أسقطتني"، "أنا النقي" و"الآخر الحاقد". ومع كل خيبة أو خسارة، نضيف شماعة جديدة تبرّر معاناتنا وتجنبنا مواجهة الأسئلة الصعبة. هكذا تتحوّل المآسي من فرص للفهم إلى وقود يعيد إنتاج الوهم، ويمنعنا من التقدّم إلى وعي أعمق يرى في الألم دعوة للوعي، لا لعنة تحتاج طرداً.
لكن حين يبدأ هذا الوعي بالنضوج، شيئاً فشيئاً، تتغيّر الزاوية التي ننظر منها إلى الألم والمعاناة. ففي المراحل الأعلى من تطوّر الوعي، كما يصفها كين ويلبر، يتخلى الإنسان عن الحيل النفسية التي يُسقِط بها ألمه على العالم الخارجي، ويكتشف أن السيطرة لا تتحقق بتفسير كل شيء، بل بقبول الغموض دون أن يفقد اتزانه. يتحول الإدراك من البحث عن مذنب إلى الاعتراف بالمشاركة، ومن وهم "أنا ضحية" إلى وعي "أنا شريك في تجربتي". هذا لا يعني أن الشخص يتحمل مسؤولية الفعل الصادم أو أنه يبرر ما حدث، بل يعني أن الشخص يبدأ في رؤية نفسه كجزء من تجارب حياتية أكثر تعقيداً، وليس كضحية محصورة في وضع معين. المعاناة لا تُلغى، لكنها تُفهم خارج إطار العقوبة.
في هذا المستوى من الوعي المتكامل، يتحوّل الخوف من العين إلى وعي بالعلاقات. لم يعد الخوف من العين مجرد اعتقاد في قوة سلبية، بل فهماً لطاقة العلاقات وتوازنها وكيف يمكن أن تكون إيجابية أو سلبية وفقاً للنية وطريقة التفاعل. فالعين هنا رمز للانفتاح أو الإنغلاق الداخلي، دعوة لنتعلم كيف نواجه تأثيرات الآخرين دون أن تؤثر سلباً على توازننا الداخلي.
ولا يُنظر إلى الحسد كقوة حاقدة ضارة موجهة إلينا، بل كمرآة لحدودنا الشخصية والعاطفية. نتعلّم كيف نحمي استقرارنا من الداخل، لا بالهروب من الطاقات السلبية، بل بعدم السماح لها بالتغلغل فينا. فالقوة الخارجية لا تُعطّلنا إلا إذا صادفت فجوة داخلية لم ننتبه لها. وحين نعي ذلك، نصبح أقل عرضة للتأثر، وأكثر قدرة على رسم مسافات تحافظ على صفائنا وتُعيد لنا شعور السيادة على تجربتنا.
وحين نستعيد هذا الشعور بالسيادة، تتساقط عنا أيضاً أوهام كانت تقيّد وعينا، فنبدأ برؤية السحر لا كتهديد خارجي، بل كرمز للقوة الكامنة في داخلنا. لم يعد السحر مجرد تفسير للأحداث الغامضة، بل أصبح تعبيراً عن قدرتنا على التغيير والتحوّل. فالسحر الحقيقي ينبع من وعينا، ومن قدرتنا على تحويل المواقف وتجاوز الصعوبات وتغيير مسار حياتنا بفهم أعمق للقوة الداخلية.
الوعي المتكامل دعوة للتوازن الداخلي، لا ينفي الغموض، بل يتّسع له، أنه لا يسخر من المعتقدات بل يعيد تفسيرها كعوامل تعكس صراعاتنا الداخلية. وبهذا، لا ننكر مراحلنا السابقة، بل نحتضنها كجزء من تطورنا، ونتجاوزها نحو فهم أعمق وأوسع. وما بين الإنكار الأجوف والتسليم بالخرافة، نختار الصدق مع الذات، نواجه ما لم نجرؤ على مواجهته داخلياً. نُعيد صياغة قصتنا لنحرر أنفسنا من الحاجة إلى "عدو خفي" يبرر آلامنا.
جميل جدا اكثر من رائع اشكرك على الطرح