top of page
بحث

من صفعة عجوز إلى صرخة تطهير

  • صورة الكاتب: عزيز بن ثاني
    عزيز بن ثاني
  • 25 مارس
  • 3 دقائق قراءة

تاريخ التحديث: 25 مارس

الساعة الرابعة والنصف عصراً في نهار رمضاني، الشمس تميل نحو الأفق وثقل الجوع والإرهاق يُخيّم على الأجواء. أوقفت سيارتي للتو في أحد الأزقة الشعبية القريبة من الحرم في مكة، وبينما كنت أتهيّأ للخروج، رأيت أمامي رجلاً عجوزاً يخرج من سيارته. وجهه مشتعل بالغضب، صوته كثور هائج، لم يطلب مني تحريك سيارتي، بل رماني بأمر قاسٍ متعجرف، كأنني عائق تافه في طريقه.

تجاهلت وقاحته السافلة بكل ما أوتيت من ضبط النفس، لكن غضبه لم يهدأ. اقترب من نافذتي، ثم رفع يده وصفعني بوقاحة صاعقة. لم تكن الصفعة قوية، لكنها مليئة بالاستفزاز، خرقت حدودي وجرحت كبريائي.

رجل كبير في السن وشاب  يتواجهان في شارع ضيق؛ الأول لابس ثوب أبيض وشماغ يحمل عصا، والآخر يرتدي قميص غامق يرفع قبضة التحدي. الجو متوتر وعلى وشك القتال.

فتحت باب السيارة بعنف، كأنني أُطلق وحشاً بداخلي. هرول سريعاً نحو سيارته ليعود متسلحاً بعصاً سميكة، كمحارب يائس يستجمع آخر قواه ليدافع عن كبريائه. تقدّم نحوي مهدداً بعصاه، ولحظات قليلة كانت تفصله عن ضربي. تسلل الخطر إلى أعماقي ليوقظ "الظل" الذي تحدّث عنه كارل يونغ، ذلك الجانب المكبوت الذي يقبع في النفس، حيث تتربّص الغرائز المتوحشة مترقبة لحظة الانفجار.

قررتُ أن أحمي نفسي من هجومه المتوقع، فاندفعت نحو شنطة سيارتي أبحث بجنون عن سلاح ينقذني من هذا العبث. لكن يا للعجب! كل ما وجدته كان كرسياً قابلاً للطي من تلك الأنواع الرخيصة للنزهات، وطفاية حريق صغيرة للسيارات. أمسكت الكرسي بيدي اليسرى كأنه درع سحري، والطفاية بيميني كأنني سأرش العجوز بدلاً من ضربه، كنت مثل شخصية هزلية في مسرحية تتظاهر بالبطولة، تحمل خردوات وتظنها مفيدة.

تخيّلت نفسي أرفع الكرسي كدرع يصدّ عني ضربة عصاه، ثم أوجّه الطفاية نحو رأسه كمن يسعى للنجاة بأي وسيلة. لكن في خضمّ هذا الجنون، عاد وعيي فجأة، رأيت جسده الهزيل المتهالك، قامته القصيرة المنحنية، خطواته المتعثرة التي تكاد تسقطه، كأن الزمن قد تآمر ضده ليُظهر ضعفه بلا رحمة. فأيقنت أن أي ضربة مني حتى لو كانت بيدي العارية قد تكون نقطة النهاية، ليست له فقط، بل لكل ما أؤمن به في حياتي.

عوضاً عن ذلك، تركت يدي جانباً وأطلقت صوتي، صرخات مدوّية انبثقت من أعماقي كزئير انعتق من أغلال الماضي. كان صوتي هو السلاح الحقيقي، القوة التي استحضرتها من وجعي وكبريائي المجروح، أرعبتُ بها خصمي وأجبرته على التراجع. شعرت أنني سيطرت على الموقف كالحيوان الألفا، مهيمناً دون أن أمد يدي، فقط بصوتي وحضوري.

بعد أن هدأ الضجيج، اتصلت بالشرطة عازماً على حماية حقي بطريقة مشروعة. لكن قبل أن تتفاقم الأمور، تحدث إليَّ ابنه وجاره بنبرة مفعمة بالأسف، واعتذرا نيابة عنه. عرفت أن العجوز أنهكته صراعاته النفسية، وأن آلامه تتسرّب إلى من حوله فتؤذيهم. حينها أدركت أن غضبه هو انعكاس لعجزه أكثر من كونه تهديداً. لذا، اخترت السلام وقررت أن أترك الأمر يمضي دون تقديم بلاغ، رغبة في الحفاظ على راحة نفسي ومنح عائلته فرصة للسكينة.

في تأملي لما حدث، شعرت براحة غريبة، كأن ثقلاً انزاح عن صدري، وكأنني في تلك اللحظة واجهت كل ضعف تراكم داخلي عبر السنين، فتبددت سمومه مع كل نفس أطلقته في الهواء. تعلمت أن تلك الصرخة لم تكن مجرد رد فعل عابر، بل كانت طقساً من الـ"كاثارسيس"، ذلك التطهير العميق المشتق اسمه من اليونانية، لحظة تلاشت فيها بقايا الغضب تحت وهج الانعتاق، وأذاب دفئها ثقل المشاعر المكبوتة، مفسحة المجال لتنفيس عاطفي عميق يُحررني من قيودي الداخلية. كانت صرخة لم تكتفِ بإعادة وضوحي الداخلي، بل كشفت لي أن الطاقة السلبية لا تُقمع، بل تُحرَّر وتُحوَّل، لتصبح قوة تدفعنا إلى المضي قدماً بخفة وسلام.

وهكذا، من صفعة عجوز إلى صرخة تطهير، امتزج الألم بلحظة تحول، حيث لم يكن الغضب الذي أشعلته الصفعة مجرد نار مستعرة، بل طاقة وجّهتها بوعي. فالقوة لا تكمن دائماً فيما نحمله بأيدينا، بل فيما نحمله في صدورنا، تتجلى في الحضور القوي، في الصوت، وفي القدرة على استعادة السلام الداخلي بدلاً من الانجراف وراء العنف.

Comments


انضم إلى سحابة نَبِلازِيز الآن

  • Instagram
  • TikTok
  • X
  • Snapchat
  • Youtube
bottom of page