top of page
بحث

هل نحن طيبون أكثر مما ينبغي، أم أن المجتمع أصبح مادياً أكثر مما يحتمل؟

  • صورة الكاتب: عزيز بن ثاني
    عزيز بن ثاني
  • 14 فبراير
  • 3 دقائق قراءة

تاريخ التحديث: 10 مارس



سيدة تحمل قلب ورغيف في الميزان، بجانب شخص أزرق يحمل مالًا. خلفيات المدينة والخضرة. لافتات مضيئة. حالة توازن.

قبل أيام، استأجرت عاملاً لإنجاز عمل يدوي، وشاركت في إتمامه معه. وعندما حان وقت الدفع، سألته عن أجره، فقال: ١٠٠. دفعتها له فوراً دون مفاصلة، لأنني رأيت فيه أمانةً واهتماماً بالتفاصيل، فشعرت أن هذا ما يستحقه. لكن لاحقاً، عندما سألتني خالتي عن المبلغ، استغربت ما دفعته ورأت أنه أكثر من اللازم، خاصةً أنني ساعدته في إنجاز العمل، وكان من وجهة نظرها أن الأجر يجب أن يكون أقل.

لم يكن الأمر مجرد اختلاف في التقدير، بل كشف لي ميلاً شخصياً إلى اتخاذ قرارات مبنية على الشعور اللحظي دون التفكير في معايير أكثر توازناً. هل كنت منصفاً حقاً، أم أنني تأثرت بالعاطفة دون أن أضع إطاراً واضحاً لكيفية تقدير الأجر؟

في المقابل، هل اعتدنا كمجتمع على التقليل من قيمة العمل اليدوي، حتى أصبح من الطبيعي المساومة عليه؟ ربما لم يكن الأمر خطأ خالتي أو خطئي بالكامل، بل انعكاساً لطريقة تفكيرنا الجماعية التي لم نتوقف يوماً لإعادة النظر فيها. فكثيراً ما نساوم العمال على أجورهم، لكننا ننفق ببذخ على مشترياتنا دون تردد.

هذه المفارقة تعكس خللاً في مفهوم القيمة، حيث تُحدد الأجور وفقاً لمعايير السوق القاسية، بينما تُبرّر الأسعار المرتفعة لمشترياتنا بالرغبة الشخصية، والسعي وراء المكانة الاجتماعية، أو تأثير استراتيجيات التسويق القائمة على الندرة.

القيمة مفهوم متحوّل، فحين أدفع لعامل دون مفاصلة، فإني أقدّر جهده وسلوكه، بينما ينظر المجتمع غالباً إلى العمل بمنطق المعادلة الاقتصادية البحتة: "كم أنجز؟ كم ساهم الطرف الآخر؟ إذن، كم يستحق؟".

لكن هل يمكن حصر القيمة في الحسابات المادية فقط؟

يرى الفيلسوف الألماني كارل ماركس أن الرأسمالية تجعل الإنسان مجرد سلعة، حيث لا يُقاس العمل بجوهره أو خبرة صاحبه، بل بمدى قابليته للاستبدال في السوق.

وهذا ما قد يجعل المجتمع، بمرور الوقت، يميل إلى التقليل من قيمة العمل اليدوي. ربما لهذا السبب، تعجبت خالتي من المبلغ الذي دفعته لأنها نظرت إليه من منظور اقتصادي.

بحت حيث يُحدد الأجر بناءً على عدد الساعات التي قضاها العامل في العمل والتكلفة السائدة في السوق. أما أنا، فقد رأيت الأمر من زاوية مختلفة، حيث أخذت في الاعتبار ليس فقط الوقت المبذول، ولكن أيضاً جودة العمل، والخبرة التي أظهرها أثناء إنجازه للمهمة.

قد يكون الدافع وراء تصرفي متأثراً بعدة عوامل؛ تأثرت رؤيتي لقيمة العمل بالانطباع الإيجابي الذي تركه العامل، حيث جعلني إتقانه واهتمامه بالتفاصيل أقدّر جهده دون النظر فقط إلى التكلفة. في المقابل، يسعى المنطق الاقتصادي البحت إلى تقليل النفقات قدر الإمكان، وهو ما قد يخلق تناقضاً بين الشعور بالإنصاف ومبدأ التوفير. ربما كان تصرفي أيضاً انعكاساً لرغبة داخلية في تأكيد قيمي الأخلاقية، مما يعزز صورتي الذاتية كشخص لا يبخس الآخرين حقوقهم. فقد شعرت بالراحة بعد أن دفعت المبلغ، لكن حينما تساءلت خالتي عنه، دخلت في حالة من التنافر المعرفي، حيث بدا لي وكأنني بين رؤيتين متضادتين:

  • عقلي يقول: "لقد كنت عادلاً مع العامل".

  • لكن المجتمع يقول: "لقد دفعت أكثر مما ينبغي".

عندها، بدأ الدماغ بمحاولة إعادة ضبط القناعة، إما بتبرير السلوك بأنه كان الخيار الأخلاقي الصحيح)، أو بمراجعته والاقتناع بأنني بالغت في الدفع). وهنا تبدأ الحيرة: هل كنت مثالياً أكثر من اللازم؟ أم أن العالم أصبح مادياً إلى درجة أن الإنصاف بات يبدو مبالغة؟

إذا كان تقدير الجهد فعلاً نقياً وإنسانياً، فلماذا نشعر أحياناً بالحيرة أو الندم بعد القيام به؟ السبب أننا نحاول باستمرار الموازنة بين المعايير العاطفية والمعايير الاقتصادية، بحثاً عن ميزان داخلي للعدالة الشخصية، بحيث يكون تقديرنا أكثر اتزاناً ومنطقية.

ففي النهاية، حتى قراراتنا الأكثر عقلانية تحمل بعداً عاطفياً.

ولكن يمكننا مراعاة بعض النقاط، مثل الاتفاق على الأجر مسبقاً لتجنب اتخاذ القرار بدافع عاطفي صرف، والتمييز بين الإنصاف والمبالغة، فالتقدير لا يعني الإفراط، لكنه أيضاً لا يعني الانتقاص. كما أن بعض الأفعال لا تحتاج إلى تبرير دائم، فبعض التصرفات قد لا تكون مقبولة اجتماعياً لكنها صحيحة على الصعيد الشخصي.

ربما لم أكن مبالغاً، بل فقط كنت إنسانياً في عالم يقيم كل شيء بناءً على مبدأ تقليل التكلفة والمصالح الشخصية.


ويبقى السؤال: هل نحن طيبون أكثر مما ينبغي، أم أن المجتمع أصبح مادياً أكثر مما يحتمل؟

هل علينا التكيف مع هذا العالم المادي، أم يجب أن تُحدث التغيير من خلال تصرفاتنا الصغيرة؟

 
 
 

Comments


انضم إلى سحابة نَبِلازِيز الآن

  • Instagram
  • TikTok
  • X
  • Snapchat
  • Youtube
bottom of page